0

الغيبة


اسم المدينة
القصب، المملكة العربية السعودية
تاريخ الخطبة
19/3/1431هـ
اسم الجامع
أحمد بن حنبل

الخطبة الأولى

أما بعد عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

معاشر المؤمنين:
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية الترقِّي بأخلاق المسلمين، وتوثيق روابط المحبة وأواصر الأخوة بينهم؛ فجاءت النصوص الشرعية مُحرِّمةً كلَّ ما يفكك هذه الروابط ويوهن هذه الأواصر.

وإن من أخطر ما يهدد العلاقة بين المسلمين ويوغر صدور بعضهم على بعض إطلاق العنان للألسن، ليتحدثوا عن الآخرين بما يسوؤهم ويحزنهم، وتلك هي الغيبة التي نهى الله عنها، وحذر منها رسول الله رضي الله عنه أعظم تحذير.

لقد نهى الله عن الغيبة وشبهها أبشع تشبيه، شبهها بأكل المرء من لحم أخيه بعد موته، مع أنه يأبى الأكل منه وهو حي، فقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].

وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم للناس الغيبة، فقال صلى الله عليه وسلم : ((أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)). قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)) قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)).

والبهتان هو الكذب والافتراء.

أخي المسلم:
احذر أن تذكر أخاك المسلمَ بما يكره وإن كنت صادقا فيما تقول؛ ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ)) وهذه كبيرة من الكبائر، وإن لم يكن فيه ((فَقَدْ بَهَتَّهُ)) وهذا إثم أكبر وجرم أعظم.

عباد الله:
من أجل أن نعرف خطورة الغيبة مهما قلّت، وإن استصغرها المتكلم واستحقرها الناس ولم يبالوا بها؛ سأذكر لكم ثلاثة أحداث حَكَمَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين لنا خطرها:
الحدث الأول: خرج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في أحد أسفارهما ومعهما رجل يخدمهما، فناما فاستيقظا وهو نائم ولم يهيئ لهما طعاماً، فقالا: إن هذا لنؤوم (أي كثير النوم)، فأيقظاه فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبابكر وعمر يقرئانك السلام ويستأدمانك، (أي يطلبون منك الإدام، وهو ما يؤكل مع الخبز) فقال صلى الله عليه وسلم : ((إنهما قد ائتدما)) فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ((بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما)) فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم : ((مراه فليستغفر لكما)).

تفكروا عباد الله:
إنهما قالا كلمة بسيطة في نظر البشر، لا يعيرها أحد أيَّ اهتمام. ولكنها في الشرع غيبةٌ وأكلٌ للحم هذا المسلم.

الحدث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا (تعني أنها قصيرة) فقال صلى الله عليه وسلم : ((لقد قلت كلمة لو مزجت بما البحر لمزجته)).

عباد الله:
كم نقول من أمثال هذه الكلمة من أوصافٍ للناس ولا نبالي، كلمةٌ بسيطةٌ في نظرنا، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين دَنَسَهَا وقُبْحَهَا فيقول: ((لو مزجت بما البحر لمزجته)) ماء البحر العظيم الذي تلقى فيه المخلفاتُ من السفن والطائرات وربما عُدلت عليه المجاري أعزكم اللهُ والملائكة ولا تستطيع أن تغير طعمه ولا ريحه لعظمته وسعته، وهذه الكلمة لو مُزجت بما البحر لمزجته.

فلا إله إلا الله، ما أعظمه من دين يحمي أعراض أهله، ويهذب أخلاقهم.

الحدث الثالث: ما رواه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الأسلمي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يطلب منه أن يطهره حيث وقع في الزنا وهو محصنٌ؛ بإقامة الحد عليه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرجم فرُجم، فسمع رجُلين من أصحابه يقولُ أحدُهما لصاحبه انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فسكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سار فمر بجيفة حمارٍ شائل برجله، فقال: ((أين فلان وفلان؟)) فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال لهما: ((كلا من جيفة هذا الحمار)) فقالا: يا رسول الله غفر الله لك من يأكل هذا؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما نلتما من عرض هذا آنفا لشرٌ من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة)).

عباد الله:
لقد علّمنا القرآنُ الأخلاقَ وربانا عليها، ولو تمسكنا بما أمرنا به؛ لما حصل بيننا خصام ولا شجار ولا خلاف ولا عداوة.

أيها المسلمون:
وإن مما يؤسف له، أنك لا تكاد تجد مجلسا من مجالس المسلمين رجالا ونساء سالم من هذا الداء الذي استشرى في المجتمع، وهم لا يدركون وقوعهم في كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، التي تغضب الله جل وعلا.

أيها الأحباب:
لقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: ((يا أيها الناس أي يوم هذا؟)) قالوا: يوم حرام. قال: ((فأي بلد هذا؟)) قالوا: بلد حرام؟ قال: ((فأي شهر هذا؟)) قالوا: شهر حرام. قال: ((فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا))، فأعادها مراراً ثم رفع رأسه، فقال: ((اللهم هل بغلت؟ اللهم هل بلغت؟)).

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، يَتَتَبَّعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَتَبَّعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).

فلا يجوز لأحد أن يعبث بأعراض الناس أو أن يمسها بسوء، بل الواجب على المسلم إذا رأى عيبا في أخيه أن يستره، وإذا رأى نقيصة سدّها، وإذا سمع مقالة فيه ذب عنه، ففي الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وخرّج أحمد في المسند من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ)).

وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مآل المغتابين فقال: ((لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)).

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الغيبة مرضٌ خطير وداءٌ فتاك، ومعولٌ هدام، وسلوكٌ يفرق بين الأحباب، وبهتانٌ يغطي محاسن الآخرين، وبذرةٌ لا تُنبت إلا الشرور في المجتمع.

وعلاج هذا المرض لا يكون إلا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب، أنّ قوله هذا حرام، وأنه بهذا القول يُعرِّض نفسه لسخط الله وأليم عقابه، وأنه يهدي حسناتِه لأولئك الذين يغتابهم، أعانه ذلك على أن يمسك زمام لسانه، ومنع نفسه عن هواها، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].

ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.........

الخطبة الثانية

أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

عباد الله:
يقول عمر رضي الله عنه : (عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء)، وقال الحسن البصري رحمه الله: والله للغيبة أسرع في دين  الرجل من الآكلة في الجسد.

عباد الله:
لقد ذكر الغزالي رحمه الله أسباب وبواعث الغيبة من تلك الأسباب:
الأول: التشفي من الآخرين بذكر مساوئهم.
الثاني: مجاملة الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة.
الثالث: أنه يظن في غيره ظناً سيئاً فذلك مدعاة لغيبته.
الرابع: يريد أن يبرئ نفسه من شيء وينسبه إلى غيره، أو أن غيره مشارك له.
الخامس: رفع النفس وتزكيتها بتنقيص الغير.
السادس: حسد من يُثنى عليه من قِبَلِ الناس أو يُذكر بخير.
السابع: الاستهزاء والسخرية وتحقير الآخرين.
الثامن: قِلةُ إيمان المغتاب وقِلةُ ورَعِه وغفلته.
التاسع: الشيطان فإنه وراء كل معصية يرتكبها الإنسان.

واعلموا عباد الله أن العلماء أجازوا الغيبة في ستة أحوال وتلك الأحوال هي:
أولاً: المتظلم فيجوز له أن يتظلم أمام السلطان أو القاضي ويذكر ظلمه له.

ثانياً: الاستعانة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى الصواب فيقول فلان يعمل كذا، ويكون مقصوده إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراماً.

ثالثاً: الاستفتاء فيقول للمفتي: أخي أو زوجي أو نحوه عمل كذا وكذا فما الحكم؟ فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن يسأله المسألة دون ذكر صاحبها.

رابعاً: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع، بل واجب للحاجة.

ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فأما معاوية فصعلوك لا مال له...)) الحديث.

ومنها المشاورة في مشاركة إنسان أو إيداعه أو معاملته أو مجاورته أو غير ذلك، وهنا يجب  على المستشار أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.

ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع  أو فاسق يأخذ عنه العلم فعليه نصيحته وتحذيره منه.

خامساً: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به.

سادساً: التعريف به، فإذا كان معروف بلقب كالأعمش، والأعرج والأصم والأحول جاز تعريضهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة النقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان أولى.

هذه هي المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبداً.

هذا وصلوا وسلموا عباد الله على رسول الله.....

إرسال تعليق

 
Top