في هذه المقالة التي بين ايديكم نتابع ما وعدناكم به من خطواتٍ عملية في
تحقيق التغيير المنشود والتحوّل التام عن أساليب العنف مع فلذات أكبادنا.
قوة التغيير والبحث عن البدائل:
البديل عن العقاب والقسوة والغلظة في التربية يحتاج إلى قوة التغيير لدى
الآباء والأمهات. تغيير في الاعتقادات التي ترسخت حول أساليب التعامل مع
الأبناء، وتغيير في المواقف والسلوكيات الأبوية.
إن البرمجة الإيجابية للسلوك الفعال في توجيه الأبناء تبدأ من نقطة أساسية
هي الاقتناع العميق بضرورة التغيير (إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم).
لنتعلم مقتضيات التغيير:
السلوك البديل والتغيير يقومان على أسس ومقتضيات لا بد من إتقانها والتدريب
عليها لاكتساب الأبوة الإيجابية ومهارات التربية الإيجابية. ومن هذه
المقتضيات:
1- حل المشكل لا إفراز التوتر:
لنضع سلوكين أمامنا: ونحن أمام سلوك مزعج ومرفوض لدى الطفل أفرز غضباً
وانفعالاً لدى المربي ترى هل نفرز هذا الانفعال من خلال التدخل العنيف
والتغليظ والبحث عن الوسائل العقابية؟ أم نجعل هذا الانفعال متجهاً نحو
إيجاد الحلول والبحث عنها؟!
2- إدارة الغضب والانفعالات:
الغضب والانفعالات لدى الإنسان إيجابية لو أحسن إدارتها والتحكم فيها. فهي
مصدر القوة والتفاعل ودليل على اهتمام الإنسان بعبادته وقيمه، ومن لا
انفعال له ولا غضب يعتريه قد يكون غير مهتمّ. وكذلك الآباء والأمهات
والمربون بصفة عامة إن لم يغضبوا لسلوكيات مرفوضة فإنّ ذلك من مؤشرات قلة
الاهتمام وقلة استشعار المسؤولية وحجمها (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)
وقلة الإحساس بالنتائج الأخروية. (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم
ناراً وقودها الناس والحجارة).
الانفعال مطلوب، والانقياد الأعمى للانفعال مرفوض
والمربي الناجح من يملك نفسه عند الغضب وحالة الانفعال..
إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بعدم الغضب وفي الوقت نفسه مدح من يغضب
لمحارم تنتهك. وهو بذلك يحذرنا من الانفعالات السلبية للغضب وينهانا عن
الغضب السلبي الذي يكون دافعه – غالباً – الذات والأنانية. وبالمقابل الغضب
للمبادئ والقيم والمعتقدات هو إحدى علامات وسمات الإيمان المتقد.
الانفعال يمنحك قوة الاهتمام والبحث عن الحلول السلمية لتغيير سلوك مرفوض
لدى ابنك، وهذا هو الانفعال الإيجابي. أما الغضب الذي يفرز عقاباً وضرباً
وصراخاً وتحطيماً وشتماً ولمزاً وسخرية فهو انفعال هدام لا يغير شيئاً ولا
يدفع الابن نحو سلوك إيجابي. وإن بدا لنا ذلك فهو مؤقت ومرحلي وبدافع الخوف
والتخلص من هياج الغضب وتوابع الانفعالات ليس إلاّ.
إن سلبيات الغضب السلبي كثيرة منها أن الطفل يتخلّى عن السلوك المرفوض
بدافع الخوف منك. والأخطر من هذا أنك تتعود مكافأة ذاتك بالغضب السلبي الذي
يفرز مادة شبيهة بالمخدر تجعلك تدمن على هذا السلوك لتُصبح سمتك الغضب لكل
صغيرة وكبيرة.
إن تكرار هذا السلوك الانفعالي السلبي يجعلك تعتقد أنك تحسن صنعاً، وأن
أبناءك يطيعون ويسمعون، وأنك ترى نتائج إيجابية على المدى القريب. لكن تذكر
أن الثمن الذي ستدفعه على المدى البعيد باهظ وكبير.. لأنك أوهنت الروابط
العائلية. إنهم يطيعونك.. لكنك فقدت ثقتهم ومحبتهم.
إنّ قوة التغيير ضرورة لمن أحب أن يصبح مربياً إيجابياً. وتبدأ من داخل
النفس البشرية. وما ورد في المقالات السابقة من مفاهيم ومهارات سيؤهلك لهذا
التغيير الإيجابي. وما سنتناوله لاحقاً سيمنحك مفتاح خطوات البرمجة
الإيجابية لسلوكك كي تصبح مربّياً إيجابياً.
التربية الإيمانية: (العقدية – العبادية)
الحاجة إلى الإيمان حاجة نفسية أساسية لا غنى للطفل عنها بل تعد الموجّه
الرئيس والمهذّب لباقي االاحتياجات. والحاجة إلى الإيمان ضرورة إنسانية
لتمييز الإنسان عن غيره من المخلوقات. فمن خلالها تهذّب الأخلاق والغرائز
وتوجه وجهتها الصحيحة المنسجمة والفطرة السليمة.
- مبادئ التربية الإيمانية:
تقوم التربية الإيمانية على مبدأين أساسيين:
1- الإيمان بالأصول الستة التي حدّدها حديث جبريل عليه السلام: (الإيمان أن
تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره
وشره) (رواه مسلم).
هذا المبدأ الذي يمثل العقيدة والأصول التي تقوم عليها شرائع الإسلام،
وعنها تنبثق فروعه. فهو نقطة البدء بالنسبة لنمو الإنسان، وهو نقطة البدء
لكل كيان أو حضارة، وهو الموجهة للإنسان وقيمه وأفكاره وسلوكه. فهو
باختصار: المنطلق والمنبع لتربية متوازنة إيجابية للإنسان..
2- الالتزام بفرائض الإسلام والتمسك بأحكامه باعتباره نتيجة حتمية لرسوخ
الإيمان في القلب والتصريح به باللسان.. فكلما ازدادت العقيدة رسوخاً نمَّت
الالتزام والامتثال لأوامر الخالق.
- هدف التربية الإيمانية:
تهدف التربية الإيمانية إلى تنمية الوازع الديني من خلال ترسيخ العقيدة
السليمة القائمة على توحيد الخالق من خلال تحقيق أنواع التوحيد الثلاثة: (الألوهية
– الربوبية – الأسماء والصفات) إلى جانب ممارسة ما يترتب على هذا التوحيد
من عبادات وشرائع.
فالمربي المسلم يسعى إلى ترجمة هذه العقيدة من خلال تقديمها للطفل منذ
نشوئه لربطه بأصول الإيمان، وتعويده منذ تفهمه على أصول العقيدة، وتعليمه
العبادات، مبتدئاً بالحفظ، ثم الفهم، ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق،
فالممارسة والتعبد.
- لماذا التربية الإيمانية؟
يعتبر المنهج الإسلامي التربية الإيمانية المنطلق الأول لبناء الإنسان
المسلم، وهدفاً أولياً ورئيسياً بسبب العديد من الاعتبارات:
-الاعتبار الأول: الحاجة الأصلية في النفس الإنسانية إلى العقيدة
الدينية واعتبار أن الإيمان لازم وضروري ومهم في حياة الإنسان، ومصدر للقوة
والاطمئنان، الشيء الذي تؤكده الدراسات النفسية والفلسفية في تاريخ
الحضارات.
- الاعتبار الثاني: ما تشكو منه الحضارة المعاصرة التي نعيشها من
مساوئ وعيوب ناتجة عن ضعف التمسك بالقيم الإنسانية وبفضائل الأخلاق، ومن
بعض التبذل والتحلل والانغماس في الشهوات مما يصدر في غالب الأحوال عن ضعف
العقيدة ونقص النوازع إلى الإيمان.
- الاعتبار الثالث: ما يشكو منه المجتمع المعاصر من بعض مظاهر الضعف
الأخلاقي وبعض مظاهر الضعف في الروح المعنوية، مما قد يسبب سريان روح
التهاون في أمور الدين والتقصير في القيام بما يحض عليه من تعاون ومحبة
وتماسك اجتماعي ومن مكارم الأخلاق.
- الاعتبار الرابع: حاجة الشباب في هذا العالم – ولا سيما في الوطن
العربي – إلى قيم واضحة تجنبهم الحيرة الفكرية وتكون لهم سنداً في تبيين
صور المستقبل بين المذاهب والدعوات المختلفة والتيارات المتعددة التي يموج
بها العالم في الوقت الحاضر.
- الاعتبار الخامس: التربية الإيمانية تشكل جهاز دفاع قوي لرعاية
الفطرة والحفاظ عليها، تلك الفطرة التي يولد عليها الإنسان (كل مولود يولد
على الفطرة) كيفما كان هذا الإنسان، يولد ولديه ميل للتدين والاعتقاد بوجود
قوي فوق كل القوى، وخالق مسيطر مبدع متحكم في قوانين هذا الكون.
إرسال تعليق